يبدأ كتاب ماكس وايس بمقتطف من مقابلة من العام 1966 في مجلة الحوادث مع الإمام موسى الصدر الذي يفصل بين مظهرين من مظاهر الطائفية: مظهر إيجابي تحاول فيه كل طائفة الاهتمام بالوضع الأخلاقي، الثقافي والاجتماعي لأبنائها، ومظهر سلبي ينطوي فيه أبناء الطائفة على أنفسهم (3). وبالرغم من أنّ وايس لا يعود إلى هذا التمييز لاحقًاً، إلاّ أنّ التمييز بين جوانب سلبية وجوانب إيجابية للطائفية، أو على الأقل بين النظرة الشائعة عن الطائفية كعائق أمام قيام دولة لبنانية حديثة، وبين فهم الطائفية كعنصر أساسي من عناصر نشوء هذه الدولة، يشكل إحدى مميّزات مقاربته للعلاقة بين الطائفة الشيعية وتأسيس لبنان الحديث.
يعرض وايس، وهو أستاذ التاريخ ودراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون، تاريخ تحوّل الشيعة إلى طائفة تحت الانتداب الفرنسي، أي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، مركزًا على دور المحكمة الجعفرية في هذا التحوّل. وهو يقدّم هذا التاريخ على أنه يختلف أوّلاً عمّا كتب عن تاريخ ولادة لبنان الحديث، وولادة ظاهرة الطائفية اللبنانية، من جهة تركيز هذه الكتابات على الموارنة (وبصورة أقل، على الدروز) كالطائفة المؤسسة للبنان الحديث وكنموذج لمفهوم الطائفة اللبنانية (17). فيعتبر وايس أنّ ظاهرة الطائفية اللبنانية هي ظاهرة متنوّعة بتنوع الطوائف اللبنانية، وأنّ لكلّ طائفة تاريخ نشأتها الخاص بها. فإن كان الدروز والموارنة تشكلوا كطائفتين خلال فترات من العنف في منتصف القرن التاسع عشر، فإنّ تشكّل الشيعة كطائفة، بحسب وايس، كان عمليّة تدريجيّة تبلورت تحت الانتداب الفرنسي. ويختلف وايس، من جهة ثانية، مع الكتابات عن تاريخ الشيعة التي تقول إنّ الحراك الشيعي لم يبدأ إلاّ مع الإمام الصدر وحركة المحرومين في الستينيات وأنّ ما سبق ذلك كان فترة طويلة من الهمود الشيعي. فهو يرى أنّ «المطلبيّة» الشيعية بدأت منذ فترة الانتداب الفرنسي. وطرحه هذا مرتبط بفكرتين أخريين: أولاً إنّ توق الشيعة تحوّل في أوائل القرن من توق للانتماء إلى أمة عربيّة موّسعة إلى سعي للانتماء إلى الدولة اللبنانية (39). والفكرة الثانية هي أنّ علاقة الشيعة بالحكم الفرنسي لا يمكن اختصارها بالتناقض بين مفهومي العمالة والمقاومة، وأنّ مفاهيم أخرى كالتفاوض والمساومة ضرورية لفهمها (60).
بدأ الحراك السياسي الشيعي، يقول وايس، منذ إنشاء لبنان الكبير سنة 1920 وبعد أن كان شيعة جبل عامل، المعروفون بالمتاولة، منعزلين في مناطقهم في أوائل القرن، خرجوا من انزوائهم في فترة الانتداب وبدأوا يطالبون الدولة الفرنسية بالكهرباء والمياه والطرقات وتخفيف الضرائب، تحت شعار المساواة، أي مساواة الشيعة بالطوائف الأخرى. والسؤال الذي يشغل وايس هو كيف صار الشيعة ينظرون إلى أنفسهم على أنهم طائفة مستقلّة على هذا الشكل. ويصرّ وايس على أنّ التوجّه الطائفي للشيعة وللجماعات الأخرى لم يكن خليق الحكم الفرنسي وحده، بل إنه نما أيضًا من الشعب نفسه، وكان إذاً للشيعة أنفسهم دور رائد في بلورة هويتهم الطائفية، فيقول وايس إنه «يجب إدراك أنّ العلاقة الجدليّة بين محاولات «فرّق تسد» من الأعلى، من جهة، والمطالبات الصاخبة من الأسفل بالاعتراف والاستقلالية، من جهة أخرى، هي التي حدّدت فعليًا تحوّل الهويّة الطائفيّة الشيعيّة في لبنان في أوائل القرن العشرين» (71).
وقبل الوصول إلى دور المحكمة الجعفرية في هذا التحوّل، الدور الذي يشكل لبّ المساهمة التي يقدّمها وايس لفهم التاريخ السياسي للشيعة في لبنان، يبدأ الكاتب بعرض الجدال حول طقوس عاشوراء الذي قام في العشرينيات والثلاثينيات من خلال مجلّة العرفان الشيعية. وأهميّة هذا الجدال بالنسبة لوايس هو تسليط الضوء على «التحوّل المعرفي» الذي شهده الشيعة في ظل ما يسمّيه «بالحداثة الطائفية»، فنشوء دولة قطرية ذات تقنيات مواصلات حديثة جعلت من الممارسات الثقافية والدينية لأي جماعة (مثلاً اللطم والتطبير في عاشوراء) علنية، ومحط أنظار الجماعات الأخرى، ممّا دفع ممارسيها إلى إعادة التفكير بها ومحاولة تقديمها بصــورة مقبولة من الآخرين. (79)
الوجه السياسي لهذا التحوّل المعرفي للجماعة الشيعية تجلّى بالمطالبة بإنشاء محكمة جعفرية، تحت شعار المساواة بين الطوائف، فقد طالب محررو العرفان بذلك في مقالة في العام 1926 متمثلين بالنموذج العراقي، ومشدّدين على أنّ إنشاء هذه المحكمة لن يؤدي إلى نزاعات طائفية لأنّ الطوائف الأخرى لديها محاكمها الخاصة ولم يؤد ذلك إلى مشاكل (103). وقد أصدرت قوات الانتداب الفرنسي قرار إنشاء المحكمة الجعفرية عام 1926 وعيّنت الشيخ منير عسيران رئيسًا لها. وهذا القرار، بحسب وايس، كان نابعًا من مصلحة دولة الانتداب ومن مطالب الشيعة في الوقت عينه. ووايس يظهر من جهة كيف أنّ همّ السلطة الفرنسية في تشريع قانون منفصل للأحوال الشخصية لم يكن توسيع سلطة المراجع الدينية بل الحد منها من خلال جعل هذا القانون استثنائيًا بحيث لا يقوّض من سلطة قوات الانتداب في مجالات أخرى (105). وهذا الهمّ أدّى إلى تحولات في السنين التالية في الموقف الفرنسي حيال قانون الأحوال الشخصية وصلاحيات المحاكم الدينية (فيما يتعلّق بالأملاك مثلاً) وحيال دور المحكمة الجعفرية. ويبيّن وايس من جهة أخرى أنّ الشيعة أنفسهم لم يكونوا متفقين تمامًا على شرعية محكمة للشيعة مستقلة عن المحاكم السنية (111)، وعلى دور رجال الدين في الحياة السياسية (202). وحتى الذين طالبوا بالمحكمة الجعفرية كان قبولهم بالتعاون مع الفرنسيين في إنشاء المحكمة قبولاً متحفظًا ونابعًا عن منفعة محددة (109).
وأهمية المحكمة الجعفرية أنها، من جهة، ربطت المجتمع الشيعي بالدولة اللبنانية (153)، كونها أوجدت إطارًا مؤسساتيًا سمح للشيعة بالتواصل مع الدولة (156)، أي أنها لعبت جزءًا كبيرًا من الدور الذي اتخذه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بدءًا من العام 1969. ومن جهة أخرى، ساهمت المحكمة الجعفرية في تكريس ما يسمّيه وايس «بالديموقراطية الطائفية» حيث شجعت، مثلها مثل المحاكم الدينية الأخرى، المواطنين اللبنانيين أن يعتبروا «حق إدارة أمور الأحوال الشخصية بحسب تعاليم جماعتهم تعبيرًا أساسيًا من تعابير الحرية» (122). ويخصص وايس فصلين من كتابه يركّز فيهما على أرشيف المحكمة الجعفرية ليظهر التحوّل التدريجي للمجتمع الشيعي إلى طائفة تحمي مصالحها تجاه الطوائف الأخرى وتدير أمور أبنائها وتنظم العلاقات بينهم. يناقش أحد الفصلين دعاوى في المحكمة الجعفرية رفعها شيعة ضد ما اعتبروه انتهاكات لأوقاف شيعية من قبل سنّة ومسيحيين في النبطية وصيدا وجزّين، والفصل الثاني يناقش دعاوى إرث وطلاق بين الشيعة أنفسهم.
وآخر ما يتوقف عنده وايس هو أحداث بنت جبيل عام 1936، حين اعتصمت مجموعة من الشيعة ضد احتكار تجارة التبغ من قبل شركة الريجي الفرنسية. ويعتبر وايس أنّ تقديم هذه الأحداث بأنها مقاومة ضد الحكم الفرنسي والتعامل معها يتجاهل واقع أنّ مطالب الناشطين كانت موجهة نحو الدولة اللبنانية وحاكميها الفرنسيين للضغط عليهما لتحسين الأوضاع المعيشية في الجنوب، أي أنّ انتفاضة التبغ في بنت جبيل كانت تعبّر عن «رغبة مستمرّة ولكن غير محققة من قبل الشيعة العامليين بأن يكونوا مندمجين بصورة أكثر شمولية في النسيج الوطني اللبناني» (201).
قد يختلف المؤرخون مع تقييم وايس لانتفاضة بنت جبيل ودور المحكمة الجعفرية وأحداث تاريخية أخرى، ولكن ثمة أسئلة نظرية يستدعيها طرحه أيضًا: يقول وايس إنّ خيار الطائفية كان خيارًا شيعيًا ولم يفرضه الحكم الفرنسي وحده، ولكن السؤال يبقى هل كان للشيعة خيار آخر؟ إذا كانت فكرة النظام الطائفي موجودة منذ القرن التاسع عشر ورافقت إنشاء لبنان الكبير، وإذا كان للسنة والمسيحيين محاكمهم الخاصة، فكيف يكون خيار الطائفية للشيعة خيارًا حرًّا وليس قسريًا؟ ربّما يمكن القول إنه كان للشيعة خيار بالانضمام إلى دولة عربية موسعة، لكن وايس نفسه لا يقدّم هذا الطرح كطرح جدّي، وهو يظهر كيف تحوّل الشيعة من هذا التوق إلى القبول بإطار الدولة اللبنانية، وهذا القبول هو الذي ولّد ضرورة التمحور الطائفي. أمّا خيار الالتحاق بمحاكم السنّة، فهو لا يبدو مطروحًا منذ البداية (إلاّ فيما يتعلّق بمطالبات مجموعة، بقيت أقليّة، على رأسها السيد محسن الأمين، بعدم فصل المحاكم الجعفرية عن المحاكم السنية).
وعطفاً على النقطة الأولى، يمكن القول إنه من الصعوبة بمكان فهم تبلور الحسّ الشيعي الطائفي من دون أن نعرف علاقة الشيعة بالطوائف الأخرى، ونظرة هذه الطوائف إليهم. وفي هذا السياق يبدو الفصل الأول من الكتاب غريبًا بعض الشيء، لأنه ينقل صورة شيعة جبل عامل قبل انضمامهم إلى لبنان الكبير، ولكن من منظار الرحّالة والحكام الأجانب (الذين ينقلون صورة سلبية عن الشيعة، لجهة الوساخة والهوس بالطهارة والانزوائية)، فلا ندري ما إذا كانت هذه الصورة السلبية عن الشيعة شائعة لدى الطوائف الأخرى، وكيف تحوّل الشيعة من هذه الانزوائية إلى الحراك السياسي في أوائل العشرينيات، وكيف كانت نظرتهم هم إلى الطوائف الأخرى. طبعًا همّ الكاتب هو التركيز على الشيعة أنفسهم وكتابة تاريخ جديد للشيعة يركز على التغيّرات التدريجية المتعلّقة بالحياة اليومية، وهذا التركيز مستحسن بحد ذاته، ولكن الاستنتاجات عن الطائفية كهوية سياسية لبنانية تصعب عندما يكون التركيز على تفاصيل تطور طائفة لوحدها.
ومع هذا، يقدّم وايس مقاربة لموضوع الطائفية مفيدة، أولا لفصله بين جوانب ثلاثة للطائفية: سياسي، يحكم توزيع المناصب السياسية، مؤسساتي، يتمثل بإنشاء محاكم خاصة للطوائف، وعاطفي، يعبّر عنه مفهوم الهوية الطائفية الثقافية وفكرة أنّ اتباع الطائفة هو طريقة حياة، وثانيًا لتركيزه على معضلة الطائفية بصفتها في الوقت عينه حلقة أساسية في تكوين الدولة اللبنانية وبالتالي في سعي الجماعات المختلفة على أن تكون جزءًا من هذه الدولة، وعامل تفريق ونزاع بين الجماعات، وبالتالي عامل تفتيت للدولة، وثالثًاً لتشديده على فكرة أن الطائفية ليست ظاهرة رجعية تقليدية، بل هي، وإن كانت مشكلة، فهي مشكلة حديثة ظهرت مع ظهور دولة القانون في لبنان، ولم تكن مجرّد راسب من رواسب التاريخ.
Max Weiss, In the Shadow of Sectarianism: Law, Shi’ism, and the Making of Modern Lebanon (Cambridge: Harvard University Press, 2010)