كتاب عبد الله النعيم: الفصل بين الدولة والإسلام ضروري، الفصل بين السياسة والإسلام غير محبّذ
أثار اقتراح كبير أساقفة كانتربري روان ويليامز الشهر الماضي بالسماح بتطبيق بعض من جوانب الشريعة الإسلامية (في ما يخص الأحوال الشخصية) للمواطنين المسلمين في بريطانيا جدلاً كبيرًا، رغم اشتراطه موافقة المعنيين واحترام حقوق المرأة. وردة الفعل هذه، في بريطانيا وخارجها، ليست بالمستغربة، نظرًا للجدال الحاد القائم بين الداعين إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بدلاً من أساليب الحكم “الغربية” وأولئك المصرّين على أنّ تطبيق الشريعة الإسلامية يتنافى مع الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يصبّ الكتاب الجديد للأستاذ السوداني عبدالله أحمد النعيم، الذي يدرّس في كلية الحقوق في جامعة إموري في الولايات المتحدة، حول “الإسلام والدولة المدنية” في هذا الجدال حول علاقة الشريعة بالحكم السياسي، ويحاول تخطي الهوة الكبيرة بين وجهتي النظر المذكورتين أعلاه عبر حساسية ملفتة يظهرها النعيم لموقف الفريقين. فالكتاب موجه من مسلم يخاطب مسلمين، يدعوهم فيه إلى تبني مفهوم الدولة المدنية على أساس أن هذا المفهوم يؤمّن لهم حرية ممارسة إسلامهم، كما لن تؤمنها لهم دولة إسلامية كالتي نادى بها مفكرون إسلاميون كسيد قطب أو أبو العلاء المودودي في أواسط القرن الماضي.
والدولة المدنية، كما يقدّمها النعيم، تقوم على أساس المحايدة تجاه الديانات المختلفة في المجتمع، من خلال الفصل المؤسسي بين السلطتين الدينية والسياسية ولكنّها، من جهة أخرى، لا تتطلّب علمنة المجتمع التي تثير، كما يقول النعيم، شكوك المسلمين عادة. وفك الربط بين حياد الدولة وعلمنة المجتمع يتمّ من خلال التفرقة بين الدولة والسياسة. فإن كان من الضروري الفصل بين الدولة والإسلام، فإنّ الفصل بين السياسة والإسلام ليس فقط غير ضروري، بل هو أيضُا غير محبذ. والسبب في ذلك، كما يراه النعيم، هو أنّ التديّن ظاهرة حتميّة في أي مجتمع، ولكل شخص أصلاً حق، تدافع عنه الدولة، في حرية المعتقد وحرية ممارسة دينه.
التحدّي إذن يكمن في كيفيّة الموافقة بين حرية كل شخص في ممارسة دينه وحرية الآخرين باعتناق دين أو معتقد مختلف. ويأتي بناء الدولة المدنية كالوسيلة التي من خلالها تتمّ هذا الموافقة. توضيح الفكرة الأخيرة هذه يعتمد على توضيح مفهوم الدولة الحديثة. فأهم ما يميّز الدولة بشكلها الحديث هو احتكارها للسلطة وأساليب القسر تجاه سكان قطر معيّن، ممّا يوجب تفادي قبض فريق من هؤلاء السكان على زمام السلطة بما يسمح لهم بإكراه السكان الآخرين. وتفادي تلك الهيمنة يتطلّب، بحسب النعيم، الاحتكام إلى الدستور وإلى حقوق الإنسان، كما يتطلّب وجود مساحة عامة أساسها المساواة يسمح فيها للمواطنين جميعًا بمحاولة التأثير على سياسة الدولة. ولأنّ سياسة الدولة يجب أن تكون محايدة تجاه الأديان المختلفة، فإنّه على المواطنين الذين يبغون التأثير عليها تقديم اقتراحاتهم بناء على ما يسميّه النعيم “بالمنطق المدني” (civic reason) الذي لا يكتفي بجج مبنية على أساس ديني. فالحجج الدينية لا يمكنها إقناع المواطنين ذوي المعتدقات المختلفة وبالتالي لا يمكن لها أن تشكّل بحد ذاتها ركيزة لسياسات الدولة الملزمة للمواطنين جميعًا. فإذا أرادت مواطنة مثلاً أن تنادي بقيام الدولة بمنع الفوائد على القروض (ربا القروض)، فإنّه لا يكفي لها أن تقول فقط أنّ هذا المنع يقتضيه الإسلام (فذلك لن يقنع غير المسلمين).
هل يتنافى طلب الاحتكام إلى الدستور وحقوق الإنسان و”المنطق المدني” مع الفرض الديني للمسلمين؟ النعيم ينفي ذلك، وحجتّه أنّ ممارسة المسلمين لواجبهم الديني هي بعينها تقتضي التفرقة بين الدين والدولة. فالإيمان هو أمر إرادي ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بنيّة المؤمنين، أما الإكراه في الدين (بما فيه الإكراه من قبل الدولة) فهو يتعارض مع الإيمان ويؤدي إلى النفاق، وذلك ما يرفضه القرآن تكرارًا. ومن جهة أخرى، وكما لا يصح أن يُكره المسلمين في دينهم، لا يصح على المسلمين فرض معتقداتهم على الآخرين، على أساس المعاملة بالمثل التي يؤمن المسلمون بها أيضًا.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ النعيم يرى أن مفهوم الدولة المدنية يتماشى مع التراث الإسلامي بصورة أفضل مما يتماشى معه مفهوم الدولة الإسلامية. فإنّ النبي محمّد وحده تمكن من جمع السلطتين الدينية والسياسية، وتجربته في ذلك فريدة من نوعها غير قابلة للتكرار. ويظهر النعيم أنّ التفرقة بين السلطتين الدينية والسياسية بدأت منذ عهد خليفة الرسول الأول أبو بكر، واستمرّت في تاريخ الإسلام. الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية الذي يدعو إليه النعيم يتبع إذًا التاريخ الإسلامي بحسبه. أما الجمع بين هاتين السلطتين التي ينادي به بعض المسلمين فهو يقوم على تبنّي مفهوم الدولة الشمولية الذي هو، بحسب النعيم، مفهوم غربي مرتبط بمفهومي الدولة القطرية والقانون الوضعي وبتجربة الاستعمار الغربي.
يتطلّب اقتراح النعيم طبعًا، كما يعترف هو بنفسه، تغييرًا في فهم المسلمين للشريعة الإسلامية. ويرى النعيم أنّ هذا التغيير ممكن إذ أنّ تفسير الشريعة هو جهد بشري والمفاهيم المتداولة حاليًا حول الشريعة الإسلامية قامت بناء على تفسيرات بشرية للقرآن وسنّة الرسول تمّ التوافق عليها من قبل أجيال من المسلمين. نجاح اقتراح النعيم إذا مرتبط بقبول المسلمين لمفهومه للشريعة كنتاج بشري يقوم على توافق المسلمين. بالإضافة إلى ذلك، وحتى ولو قبل المسلمون بفهم النعيم للشريعة الإسلامية، فقد يتساءلون عن ضرورة أن يكون التفسير الجديد للشريعة محكومًا بإطار حقوق الإنسان، كما يطلب النعيم. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو حول إلزامية القبول بحقوق الإنسان. هل القبول بحقوق الإنسان نتيجة طبيعية للقبول بالإسلام؟ يبدو أحيانًا وكأنّ النعيم يؤمن بذلك. فهو يقول أنّ الشريعة لا تتناقض مع حقوق الإنسان، باستثناء فروض معينة حول النساء وغير المسلمين وحرية الإيمان والمعتقد. ولكنّ الاستثناءات هذه مهمّة لدرجة تصبح معها مقولة أن حقوق الإنسان نتيجة طبيعية لتطبيق الإسلام غير صحيحة تمامًا. من جهة أخرى، لا يفصل النعيم بوضوح بين نوعين إضافيين من الحجج للقبول بأولوية حقوق الإنسان: ثمة حجج تبنى على أساس الحيطة كقول النعيم، كما ذكرت أعلاه، أن احترام المسلمين لحقوق الآخرين ضروري لأنهم يريدون أن يحترم الآخرون حقهم هم في ممارسة دينهم (وتنتفي هذه الحجج بانتفاء الأسباب التي تدعو إلى الحيطة، كأن يقول البعض أن لا داعي للمسلمين إلى احترام حقوق الإنسان في بلد يشكلون فيه الأكثرية المطلقة ويتفقون فيه على فهمهم لدينهم) وثمة نوع ثاني من الحجج لا يقوم على أساس احترازي. النوع الثاني من الحجج يقوم على أساس مبدأي، كالقول (على سبيل المثال لا الحصر) أن أي تطبيق لفكرة الدولة التي تتمتّع بالسيادة على قطر معيّن يتطلّب أيضًا تطبيق حقوق الإنسان على أساس أن فكرة السيادة وجدت في الأصل كوسيلة لتحقيق العدالة لمجموعة معينة من السكان وأنّ أي دفاع عن فكرة الدولة السيادية هو ناقص في المبدأ (اي انه لا يحترم الفكرة لما هي عليه) إن لم يرتبط بدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان للناس الخاضعين لهذه السيادة جميعهم دون استثناء. يبدو وكأنّ النعيم يلجأ إلى هذه الحجة أحيانًا. إذن لا يوضح النعيم أي نوع من أنواع الحجج الثلاثة المختلفة هذه (حجج مبنية على مبدأ إسلامي، حجج مبنية على دافع الحيطة، حجج مبنية على مبدأ أخلاقي غير إسلامي) يجب أن يدفع المسلمين إلى احترام أولوية حقوق الإنسان في أي تفسير جديد للشريعة الإسلامية يقومون به.
أخيرًا، يدفع تصوّر النعيم للدولة المدنية إلى التساؤل حول ما إذا كان شرط أن تكون الأفكار المطروحة في المجال العام مبنية على فكرة “المنطق المدني” (هو شرط يشبه كثيرًا ما ينادي به الفيلسوف الأميركي الراحل جون رولز) يتناقض مع إصرار النعيم على الصلة الوثيقة بين الدين والسياسة. فإن كان المنطق الديني هو المنطق الوحيد الذي يصح في الساحة العامة، وإن كان هذا المنطق لا يقبل بالحجج الدينية، فما هو دور الدين إذن في الساحة العامة أي في المجال السياسي؟ يقوم هذا الشرط على فكرة أنّ الحجج الدينية لا تستطيع إقناع ذوي الديانات المختلفة. وقد رفض نقاد كثيرون الشرط هذا في صياغته الشهيرة من قبل جون رولز، فالكثيرون لم يقتنعوا بفكرة الطلب من المؤمنين الفصل بين ايمانهم الديني ومعتقداتهم الدينية، على أساس أن الايمان يؤثر على معتقدات المؤمن جميعها، والبعض قال أن على السياسيين، لا المواطنين أنفسهم، ترجمة الحجج الدينية إلى حجج مدنية. يمكن إذن التساؤل حول ضرورة شرط الاحتكام إلى المنطق المدني وإن كان لا يكفي أن تقتصر الدولة المدنية على حكم الدستور وحقوق الإنسان.
ورغم التساؤلات هذه، فإنّ كتاب النعيم يساهم بصورة بنّاءة في الجدال القائم حول الشريعة الإسلامية والحكم السياسي خاصّة في محاولته عدم الانتقاص من أهميّة الدين الإسلامي للمسلمين من جهة ومن ضرورة الحياد والمساواة في الحكم السياسي من جهة أخرى.