في إطار اهتمام برنامج “لقاءات” الباحثات في استضافة باحثات شابات في طور الاعداد لأطروحة الدكتوراة او في مستهل حياتهن البحثية فإن اللقاء الخامس استضاف الباحثة الشابة لبنى الأمين التي تنجز أطروحة الدكتوراة في الفلسفة السياسية في جامعة برنستون في اميركا حول مفهوم السياسة في الكنفوشيوسية. وهنا ملخص ما قدمته.
سأبدأ أولًا بالأسباب التي دفعتني لاختيار موضوع الكنفوشيوسية كموضوع بحث. يمكنني أن أقول أنّ ما شدّني إلى الكنفوشيوسية ثلاثة أسباب: أولاً، كنت دائمًا أرفض أن يكون الغرب المصدر الوحيد للأفكار الفلسفية وأن يكون كل من قال شيئًا مهمًا عن الفلسفة أو عن المجتمع أصله أوروبي (أو، بوقت لاحق، أميركي). السبب الثاني، والمرتبط بالسبب الأول، لاهتمامي بالكنفوشيوسية، هو اهتمامي بالتحدي التي تواجهه الدول النامية بالتوفيق بين إرثها الفكري والثقافي ومتطلبات الديمقراطية والعصرنة. والمثقفون الصينيون يهتمّون حالياً بإعادة تقديم الكنفوشيوسية بحلة حديثة، مثلهم مثل المثقفين العرب الذين يحاولون تقديم الإسلام بحلة تتناسب مع الديمقراطية. السبب الثالث يكمن في الأفكار الكنفوشيوسية نفسها. فالكنفوشيوسية نظام فكري غير ديني وخالٍ بصورة شبه كاملة من الميتافيزيقيات. وهو فكر متفائل بقدرة الإنسان على النمو الأخلاقي وقدرة المجتمع على التناغم، لكنه في الوقت عينه ليس فكرًا مثاليًا، أي أنه يأخذ بعين الاعتبار الوقائع على الأرض، خاصة فيما يتعلّق بمنظوره السياسي. وأخيرًا، فإن الكنفوشيوسية لا تفصل بين الشخصي والعام، وهنا تلتقي مع الفكر النسوي القائل بأنّ الشخصي سياسي (the personal is political).
فكرة الأطروحة الرئيسية هي أن الجانب السياسي من الكنفوشيوسية هو أساسي، بعكس الصورة الشائعة عن الكنفوشيوسية وعن غيرها من الفلسفات “الشرقية”عن أنها فلسفة أخلاقية أو حتى روحانية في الدرجة الأولى. وهناك أشكال عديدة لعلاقة الجانب الأخلاقي والجانب السياسي في الفكر الكنفوشيوسي، لكن التركيز هنا هو على شكل واحد من أشكالها، وهو الجانب التي تبدو فيه التبعية المتبادلة بين الجانبين: فمن ناحية، التنمية الأخلاقية، خاصة في العائلة، أساسية بالنسبة للكنفوشيوسيين للتدريب على الواجبات السياسية، ومن ناحية أخرى، فـإنّ المشاركة السياسية أساسية لتنمية الفضيلة.
مفهوم الفضيلة في الكنفوشيوسية مفهوم تواصلي يتبلور في علاقة الفرد مع غيره. أما العلاقات الرئيسية التي يتحدث عنها الكنفوشيوسيون فهي علاقة الأبناء بأهلهم، علاقة الأخوة، علاقة صغار السن بكبار السن، علاقة ذوي المراتب العليا بذوي المراتب الدنيا، وعلاقة الوزراء بالحاكم. والكنفوشيوسيون يعطون أهمية كبيرة للعلاقات العائلية بصفتها المكان الأول الذي يبدأ فيه المرء بتعلّم الصفات الأخلاقية كالتبادلية، الوفاء، والصدق. العلاقات العائلية إذًا تمهد للعلاقات الأخرى، خاصة السياسية منها، فيقول كنفوشيوس: “أن يكون المرء ابنًا وأخًا جيدًا هو الجذر الذي تنمو منه الخيرية” (أقوال كنفوشيوس 1.2). ويعطي الكنفوشيوسيون العائلة الأهمية هذه في تفكيرهم بالحياة الأخلاقية والسياسية بسبب كون مشاعر الحب والاحترام داخل العائلة طبيعية بالنسبة إليهم، فيسهل تطويرها إلى صفات أخلاقية ومن ثم تطبيق هذه الصفات على أشخاص خارج العائلة.
أما العلاقات السياسية، فهي تشكل جزءًا أساسيًا من مفهوم الفضيلة والنمو الأخلاقي، فالعلاقات السياسية هي من العلاقات الأساسية، ولا يكتمل الشخص الفاضل الكنفوشيوسي إلا بممارسته الأنواع المختلفة من العلاقات، موسعًا بذلك تجاربه. وتبدو أهمية العلاقات السياسية في نبذ الكنفوشيوسيين للانزاوئيين. ويبدو أن هؤلاء كانوا عديدين في وقت كنفوشيوس (أي حوالي القرن السادس قبل الميلاد)، رجال تركوا العالم ليعيشوا وحيدين مع عائلاتهم يعتمدون على الطبيعة فقط لأكلهم ولبسهم وعيشهم. وردًا على واحد منهم كان يشجع كنفوشيوس على العزلة، يقول هذا الأخير: “المرء لا يستطيع أن يجتمع مع العصافير والحيوانات. إذا لم اجتمع مع الناس، فمع من أجتمع؟” (أقوال كنفوشيوس18.6). إذن الكنفوشيوسيون يعتبرون العيش في المجتمع أمراً طبيعياً يأتي من طبيعة الانسان كإنسان. وتبدو كذلك المشاركة السياسية شيء طبيعي، كالمشاركة في العلاقات العائلية. وكما تكون الأخيرة واجبة على الإنسان، فالعلاقات السياسية كذلك. فكما يقول زيلو، تلميذ كنفوشيوس، فإن المشاركة السياسية واجب، لأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة أساسية في المجتمع (أقوال كنفوشيوس، 18.7).
إذن من جهة، النمو الأخلاقي، خاصة في العائلة، هو أساسي للتدريب على الواجبات السياسية. ومن جهة أخرى، تنفيذ الواجبات السياسية، بالدخول في العلاقات السياسية، جزء لا يتجز من تنمية الفضيلة. والسؤال يبقى، كيف ينظر الكنفوشيوسيون إلى الحالات التي يتعارض فيها الواجبان؟
يشجع الكنفوشيوسيون العلاقات السياسية (وأهمها علاقة الوزير بالحاكم) ولو كان بعض أطرافها فاسدين، أي أنّهم يشجعون التوظف ولو لدى حاكم فاسد، ويبررون ذلك على أساس المنفعة السياسية، لا القيمة الأخلاقية. نلحظ ذلك في محاولات تبرير الكنفوشيوسيين لمحاولاتهم الشخصية للحصول على مناصب سياسية. مثلاّ، إحدى القصص عن كنفوشيوس تروي أنّه كان يريد أن يساعد قائدًا عسكريًا كان يحاول الانقلاب على حاكم دولته، الأمر الذي لم يعجب زيلو، تلميذ كنفوشيوس، الذي يعترض على ذلك قائلاً: “منذ وقت، سمعت منك أن الشخص النبيل لا يدخل ميدان من هو في شخصه ليس جيدًا. والآن هذا الرجل يقوم بانقلاب، فكيف يمكنك أن تذهب إليه؟” فيجيبه كنفوشيوس: “هذا صحيح. أنا قلت ذلك. ولكن ألا يقال أن الصلابة هي ما تقاوم الطحن، وألا يقال أنّ الأبيض هو ما يقاوم الصبغة السوداء؟ ثم كيف أسمح لنفسي أن أعامل كيقطينة تتدلّى من حبل بدلاً من أن تؤكل؟” (أقوال كنفوشيوس 17.7). الكلام عن الأبيض والصلب هنا يمكن اعتباره إشارة إلى قدرة كنفوشيوس على مقاومة الفساد ولو خدم من هو فاسد. أما الكلام عن اليقطين، فيبدو إشارة إلى أهمية استخدام القدرات وعدم تبديدها ولو لم يكن الاستخدام في جو تتجلّى فيه المعايير الأخلاقية. وفي هذا المجال لا ترتكز أهمية المشاركة السياسية على التنمية الأخلاقية، بل على استخدام القدرات لتحسين وضع المجتمع، أي أن واجب المشاركة هنا سياسي، وليس أخلاقيًا، في الدرجة الأولى، فالهم ليس الحفاظ على النقاء الأخلاقي بل تحسين المجتمع، وكنفوشيوس مستعد للمشاركة في حكم انقلابي (وهو لا يحبذ النقلابات في حالات كثيرة أخرى) في سبيل هذا التحسين.