نحو يسار لبناني جديد (Towards a New Lebanese Left)

حرّكت الثورات العربية المستمرة لبنان وناسه كما حرّكت باقي العالم العربي، ولعلّها هزّت فئة معينة من اللبنانيين بشكل خاص. نحن الذين لم نعرف العالم العربي إلا بقيادييه المعمّرين منذ ثلاثين سنة، ولم نعرف لبنان إلا مع نظام الحكم القائم فيه منذ اتفاق الطائف، اختصرت علاقتنا بالحركات الثورية والتغييرات السياسية الهامّة بما قرأنا وسمعنا عنه وما نقله لنا أهلنا عن إعتصامات وتحركات شاركوا فيها في زمن مضى. جاءت الثورات الحالية إذًا لتبدّل ما ظنناه قد أصبح قواعد اللعبة ولتفتح لنا آفاقًا جديدة للتفكير وربما التغيير.

باستثناء التحرك الشبابي لإسقاط النظام الطائفي الذي لم يلق الحشد اللازم، ظلت ردة الفعل في لبنان من الثورات العربية المختلفة محبوسة بمنظاري 8 و14 آذار وكأن المنظارين نظامان فلسفيان واضحا المبادئ يساهمان بفهم الأحداث التاريخية. هذه ليست المرة الأولى التي يكبّل فيها المنظاران الحديث السياسي في لبنان ولكن التكبيل الذي أنتجاه هذه المرة كانت وطأته أثقل إذ جاء في ظل شجاعة التحركات العربية وإبداعيتها. لم يترك لنا الحديث في لبنان إلا أن نتحمّس لأصوات منفردة انشقت عن مجموعتها هنا وهناك. ويدفع هذا الوضع المرء إلى التساؤل عن غياب حركة مقنعة يسارية في لبنان كان ليكون موقفها من الموجة الثورية سهلًا وواضحًا، بصفتها ترتكز على مبدأين اثنين حرّكا الشعوب العربية في الأشهر الماضية وهما الحرية والعدالة الاجتماعية.

يعتقد البعض، أو ربما الكثيرون، أن اليسار ظاهرة ولّى عليها الزمن. ويساعد طبعًا على هذا الاعتقاد فشل الحركات الماركسية والشيوعية حول العالم، ولكن أيضًا توجه العديد من اليساريين القدماء اليوم، خاصة في الغرب، إلى دعم الحركات الدينية والقومية على أنّها الحل لمواجهة الهيمنة الغربية الرأسمالية والإمبريالية. أما في لبنان، فالأحزاب التي تطلق على نفسها لقب اليسار غالبًا ما لا يكون لها علاقة باليسار. ولكن هذه الأسباب يجب أن تدفعنا لا إلى نبذ فكرة اليسار بل إلى التفكير بيسار جديد يغني الحديث والممارسات السياسية في لبنان.

فأهمية اليسار أنّ اهتمامه الرئيسي الوضع الاجتماعي، أي مسألة العدالة. والعدالة مرتبطة بصورة وثيقة بالحرية الفردية. فما أهمية أن يكون للمرء ما يسمح له بتلبية متطلبات حياته المعيشية إن لم يكن ذلك بهدف أن يختار الحياة التي يشاء ويعيشها دونما تدخل؟ وفي الوقت عينه، ما أهمية أن يكون حرًّا من يحد الفقر من خياراته في الحياة؟ وقد عبّرت التحركات الثورية العربية عن الصلة المحكمة بين العدالة والحرية إذ أنّ فئات الشعب ذات المداخيل الأدنى كانت أساس النداء لإسقاط الأنظمة القمعية. والواقع في لبنان أنّ ثمة حاجة للتشديد على مسألة العدالة الاجتماعية أكثر من مسألة الحرية لأن الحرية مصطلح شائع الاستعمال في بلدنا أما المساواة فلا.

 إن ضعف الحديث عن المسألة الاجتماعية في لبنان قد يفسره التركيز على المشكلة الطائفية. وخطأ اليسار اللبناني، أيام ما قبل الحرب، كان أنه أراد أن يرد المشكلة الطائفية بأكملها إلى صراع الطبقات، والأصح أن جزءًا منها كان مصدره اقتصاديًا وجزءًا آخرًا لم يكن. ولكن الجدير بالذكر، وما نغض النظر عنه في محاربتنا للطائفية اليوم، أن الظلم الذي تشكله الطائفية بالنسبة للفرد شبيه بالظلم التي تشكله الفروق الاقتصادية: في الحالتين يجبر المرء أن يعيش تبعًا لوضع ولد معه ولكنه لم يختره. فإن ولد فقيرًا عاش فقيرًا وإن ولد في هذا المذهب أو ذلك، اضطر أن يحتكم بالمناصب والحصص الخاصة بمجموعته. والحل إذا للمشكلتين أن يكون نظام مجتمعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي مبنيًا على شكل تتوافر معه فرص متساوية للجميع بمعزل عن هويتهم المذهبية والاجتماعية (والجنسية).

واليسار الحديث، وإن كان ضد الطائفية بصفتها، كما الفقر، نظامًا اجتماعيًا يحد من الحرية، فهو ليس ضد الدين (بعكس الماركسية بشكلها التقليدي). ذلك أنه يحق لمن يشاء أن يؤمن بما يشاء ويمارس إيمانه كما يشاء على أن لا يتدخل بمعتقدات وطرق حياة غيره. هذا الحق يندرج تحت الحرية الفردية. أما المجموعات الدينية أو الطائفية فهي لا تشكل مشكلة بحد ذاتها حين تحترم حريات أفرادها (خاصة النساء) و يكون الانتماء لها مبنيًا على خيار حر، وهذا يؤكد ضرورة وجود نظام تكافؤ الفرص حتى لا يكون الانتماء لهذه المجموعات قسريًا، أي أن يكون الطريقة الوحيدة لتأمين المعيشة والتعليم والطبابة وفرص العمل.

قد يرى البعض أنّ هذه الأفكار، وفكرة حركة يسارية جديدة في لبنان عمومًا، مثالية وبعيدة عن التعقيدات اللبنانية وعن تكوينه الخاص وتاريخه الخاص. ولكن أي تفكير في شكل نظام حكم جديد لا ينجح إلا إذا بدأ من مبادئ عامة وربما مجردة فلو بدأنا من التفاصيل لبقينا عالقين فيها. ثم أننا تعبنا من سماع الكلام عن خصوصية لبنان وتعقيده وهو كلام لا يسمح لنا بالاستفادة من تجارب بلدان أخرى والتماهي مع تحركات تاريخية كالتي شهدناها ونشهدها في البلدان العربية. وأخيرًاـ فإن ما علمتنا اياه هذه الثورات الشعبية العربية أن بعضًا من المثالية ضروري فإنه ما يحرر من الجمود والتشاؤم ويدفع نحو التغيير.